![الصراع على إعادة الإعمار [2] الريع الأمني الصراع على إعادة الإعمار [2] الريع الأمني](uploads/gallery/Albums/2025/01-10-2025/5f4eb3d1ca.jpeg)
تبرز الحاجة إلى إعادة الإعمار في خضم تحولات جيو-اقتصادية عالميّة، تؤثّر على نحو خاص في أوضاع المنطقة العربيّة بما فيها المناطق المتأثرة مباشرة بالعدوان «الإسرائيلي» أو المهدّدة به. في صدارة هذه التحولات، ظهور القوميّة الاقتصادية بوصفها أساس النظام الاقتصادي العالمي، ضمن فهم أميركي متشدّد لها.
وتقدّم إدارة دونالد ترامب نسخة جديدة للنزعة القوميّة في العلاقات السياسية والاقتصاديّة. فسعي واشنطن إلى تقليص خسائرها التجاريّة مع العالم عبر العقوبات والرسوم الجمركيّة هو الوجه الآخر لمبدأ السلام عبر القوّة الذي يتردّد على ألسنة مسؤولي الإدارة الأميركيّة. وترى نفسها، تبعاً لذلك، مطلقة اليدين في اتّباع ما تريده من سياسات تجاه الدول الأخرى.
ويراوح الأمر بين كسر القواعد التي قام عليها النظام الاقتصادي العالمي منذ تسعينيّات القرن الماضي، ومحاولة فرض قواعد جديدة أو حتى إقامة نظام عالمي من دون قواعد. مع ذلك لا يمكن الوثوق بديمومة الإجراءات التي تتبعها إدارة ترامب في سياساتها الهجوميّة التي تنقلب رأساً على عقب بين ليلة وضحاها ومن دون سابق إنذار.
وتُعدّ العقوبات قطب الرحى في رؤية واشنطن الاقتصاديّة والسياسيّة للعالم، وتعبّر عن أكثر وجوه قوميّتها الاقتصاديّة تطرفاً، وهذه العقوبات لا تقتصر على قرارات رسميّة وعلنيّة كوضع كيانات على لوائح الإرهاب والحظر، بل تتجاوز ذلك إلى إجراءات ضمنيّة أشدّ خطورة مثل فرض حصار غير معلن على دول ومجتمعات، والعقاب بالمنع كعرقلة الإعمار وإبطاء برامج استيعاب آثار الحروب.
والوجه الآخر للقوميّة الاقتصاديّة تمثّله السياسة التجاريّة العقابيّة التي تعتمدها أميركا في مسعاها إلى مقاومة العوامل البنيويّة للانكماش في الناتج المحلي الأميركي، وعلى رأس ذلك الدين الفدرالي الضخم المقدّر بـ 36.2 مليار دولار أميركي، أي أكثر من 131% من الناتج المحلي الأميركي، ونحو 35% من السيولة العالميّة بالدولار. وهي تبحث عن حلول لأزمتها عبر التوسّع ونقل آثارها إلى الخارج وتوظيف الريع الأمني لمصلحتها.
ينشأ الريع الأمني من استثمار واشنطن لحضورها العسكري في أرجاء العالم، إن بجباية ضريبة من الآخرين في مقابل تمكينهم من الاستفادة من المظلات الأمنيّة التي يؤمنها هذا الحضور، في التجارة والتبادل والعلاقات الاقتصاديّة، أو بمعاقبتهم عبر عرقلة مشاريعهم الخاصّة كإعادة الإعمار أو التعافي الاقتصادي أو إقامة علاقات عادية مع العالم. وبذلك يكون للريع الأمني شكلان، إيجابي حيث يسدّد الآخرون (دول الخليج مثلاً) الثمن مباشرة نقداً أو بالاستثمارات، وسالب (عكسي) عبر الضغط على المتمرّدين والمارقين لتقديم تنازلات تؤهّلهم الانضمام إلى نادي المستفيدين من المظّلة بعد تأدية أثمانها.
تدلّ كلفة مشروع إعادة إعمار غزة المقدّرة ما بين 1 و 2 تريليون دولار على أن الهدف ليس إعادة إسكان الناس في أرضهم
فإذا كان الريع الأمني بالنسبة إلى كندا هو جعلها الولاية الأميركيّة الـ 51، وإلى جزيرة غرينلاند شراءها، فإنها بالنسبة إلى غزة هي الاستسلام وطرد السكان لإقامة مشروع اقتصادي ضخم عليها، وبالنسبة إلى لبنان أن يعود دولة منزوعة السلاح، ومراقَبَة بدقّة من الخارج، ومقيّدة السيادة في سياساتها الاقتصادية والخارجية والدفاعيّة، والتموضع سياسيّاً واقتصاديّاً داخل الدور المرسوم له في الإقليم والعالم.
فمثلاً يُسمح للبنان أن يكون مركزاً ماليّاً من الدرجة الثانية تديره فروع للمصارف الأجنبيّة، وعقدة ثانوية للنقل البحري في المجالات التي لا تقوم بها موانئ فلسطين المحتلة والموانئ السوريّة لاحقاً. ويُتاح له أيضاً إعمار ما هدّمته الحرب وتأهيل قطاعاته الخدماتيّة وبنيته التحتيّة المترهلة بالاعتماد حصراً على عقود مع شركات الدول الغربيّة والإقليميّة النافذة وفق نماذج الشراكة التي يؤسّس لها حاليّاً. لكن يُمنع عليه، في المقابل، تحضير نفسه للاستفادة من موقعه المتميّز، والاندماج في المشاريع العالميّة الناجحة كالحزام والطريق أو حتى نسج علاقة طبيعيّة مع دول المشرق وجوارها وشبك بناه التحتيّة معها والتكامل معها من دون قيود.
وتسعى واشنطن إلى جباية ما نسمّيه الريع الأمني من الدول المستفيدة من حمايتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولا يقتصر الأمر على الدول المحميّة كدول الخليج وأوكرانيا بل يشمل حلفاء كدول الاتحاد الأوروبي المطالبة برفع إنفاقها العسكري إلى 5% من الناتج (من 1.3% حاليّاً) من مجموع ناتج الاتحاد الأوروبي، حتى لا تكون الراكب المجاني Free rider في قطار الحماية الأميركية.
ولا تكفّ واشنطن عن تكرار أن الصين، المنافس الاقتصادي والتجاري الأكبر لها، تستفيد من المظلّة الأمنية الأميركية في تسيير خطوط التجارة عبر العالم، وأنّ عليها، حتى لا تظلّ بدورها راكباً مجانيّاً، أن تؤدّي ثمن هذا الريع في علاقاتها الاقتصاديّة مع الولايات المتحدة ومع العالم.
ويتعامل الغرب مع عمليات إعادة الإعمار على أنها جزء من نظام العقوبات الأوسع ومن سياسات الجباية العكسيّة للريع الأمني، فمنع الإعمار تارة يكون معلناً (مثل قانون قيصر ضدّ سوريا في عهد النظام السابق) أو غير معلن (إعادة إعمار لبنان)، وفي الحالتين يُربط السماح بالإعمار، بالحصول على مقابل اقتصادي (تحويل البلدان المُعاد إعمارها إلى منطقة نفوذ اقتصادي أميركي) أو سياسي (تنازلات في ملفات التطبيع وغيره).
ويواجه لبنان في تحدّي إعادة الإعمار مزيجاً من «السلام الليبرالي» الآنف الذكر، والتطبيع «الإبراهيمي» الذي تضاعفت أثمانه وقلّت عوائده بفعل التغوّل الإسرائيلي.
ولا يقف التطبيع عند حدود نسج علاقات بين الدولة المطبّعة و«إسرائيل»، بل يتعدّى ذلك إلى تغيير تموضعها الجيواقتصاديّ، ودفعها إلى الانضواء في المشاريع الإقليميّة الكبرى التي يُراد لكيان العدو أن يكون عقدة وصلها، مع ما ينطوي عليه ذلك من كبح مسار التحوّل شرقاً وتقييد العلاقات الاقتصاديّة لبلدان المنطقة مع الدول غير الغربيّة، والحؤول دون الاستفادة من وفرة الموارد الاستثمارية في الشرق وسهولة الحصول عليها. وتتضمن المقاربة الاقتصاديّة التي تريد واشنطن فرضها على المنطقة إعادة توزيع الموارد داخل المنطقة وبينها وبين رعاتها الخارجيين على نحو يتناسب مع موجبات الصراع العالمي.
وبقول أوضح، يضع التطبيع حدّاً لإمكانيّة دخول لبنان في شراكات تناسب تقديره لمصالحه ضمن مقاربة الأرباح والخسائر، كما في الشراكة مع الصين في مجالات البنى التحتيّة، ومع روسيا في مجال النفط، ومع إيران في عدد من المجالات. بل يلوّح الموفدون الأميركيّون للمسوؤولين في لبنان، بإمكانيّة تجاهل الإصلاحات والحصول على تمويل سهل إذا ما لبّوا ما هو مطلوب منهم. وبذلك يكون الإمعان في التوجه غرباً مانعاً لتوسيع علاقات لبنان الاقتصاديّة مع الخارج، ومعرقلاً للإصلاحات، وعقبة أمام تطوير القاعدة الإنتاجيّة والتكنولوجيّة للاقتصاد اللبناني.
ويُلقي ما تقدّم بظلاله على النظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي يشهد تغيّراً في القوى الفاعلة والمؤثّرة عليه، ويتقاطع ذلك مع التغيّرات الناتجة من التطورات التكنولوجية وبروز طبقات جديدة لها مصلحة مضاعفة في الجباية الفورية للريع الأمني.
فمن ناحية نشأت طبقة تكنو-رأسمالية وتكنو ريعية صار لها اليد الطولى في تقرير مسارات الأمم. الصفة التكنو رأسمالية لهذه الطبقة تتعلق بسرعة نموّ الشركات المعتمدة على التكنولوجيات الأكثر تقدماً، على صعد الربحيّة والرسملة والقيمة السوقيّة، والذي يجري بوتيرة أعلى بكثير من الشركات الأخرى.
فمثلاً تتصدر الشركات التكنولوجية المراتب الخمس الأولى عالمياً من حيث القيمة السوقية، لتأتي بعدها شركة النفط السعوديّة آرامكو في المرتبة السادسة، وتليها شركات تعتمد على التكنولوجيا الحديثة أيضاً. والصفة التكنو ريعية للطبقة نفسها تأتي من أن إيرادات هذا النوع من الشركات يفوق بكثير نمو عوامل إنتاجها (العمل، الرأسمال) ونموّ إنتاجية هذه العوامل.
وتتّصف هذه الشركات بمعدلات مرتفعة لرأس المال/ المخرجات Capital-Output، وقدرة منخفضة على تشغيل اليد العاملة وتوليد فرص العمل. وبذلك تكون الإيرادات الضخمة ذات المنشأ التكنولوجي مشابهة من حيث طبيعتها الريعيّة، للإيرادات المتأتية من الموارد الطبيعية، مع ما يرافقها من ظواهر اقتصادية سلبية كلعنة الموارد، وسوء توزيع الثروة على المستوى العالمي. ويزيد من الأثر الريعي لتعميق دور التكنولوجيا في الاقتصاد تضخّم حجم أعماله، كما في عائدات صناعة أشباه المواصلات التي يتوقع أن تصل في عام 2030 إلى نحو تريليون دولار أميركي، أي ثلث إجمالي عائدات النفط في العالم تقريباً.
المهم في السياق، هو أنّ طبقة رجال الأعمال هذه (التكنو- رأسمالية/ ريعية) باتت هي المسيطرة على القرار السياسي في عدد من الدول الكبرى (وعلى رأسها أميركا)، فانتقلت من كونها جماعة ضغط وطبقة مؤثّرة على متّخذي القرار، إلى أن تكون هي نفسها في موقع القرار.
بل إنّ الطريقة التي تؤدّي بها هذه الطبقة دورها في المجال السياسي تسمح أيضاً بإطلاق صفة التكنو إقطاعية عليها، إذ إنّها تتحكّم في توزيع الأصول التكنولوجية وشروط تشغيلها، وتستحوذ على الشطر الأكبر من القيم المضافة الناتجة من التوظيفات المرتبطة بها.
وهذه الطبقة لا تملك دوافع سياسيّة كافية لقياس المصالح بصورة دقيقة، وليس لديها ما يكفي من مجال الرؤية والخبرة لتقويم المخاطر والتحديات في المدى الطويل، ولا تتورّع عن استعمال القوة الخشنة بوجوهها كافة العسكرية والأمنية والاقتصادية للوصول إلى أهدافها في أسرع وقت وجباية الريع الأمني بكلّ صفاقة.
ويتعامل الغرب مع دول العالم على أساس تقسيم بين مناطق مفيدة وأخرى غير مفيدة؛ الأولى، تكون في قلب الصراع والمنافسة العالميّين وفي مركز اهتمام الدول والمستثمرين والباحثين عن الفرص، فيما تُتَرّك الثانية إلى مصيرها.
ولا يقتصر هذا التصنيف بين مفيد وغير مفيد على المقارنة بين الدول بل يشمل مناطق داخل الدول نفسها. فسوريا هي دولة «مفيدة» بالعموم لموقعها الجغرافي- والإستراتيجي، ولكن مناطق النفط في الشرق، والحدود مع الجولان في الجنوب، والشواطئ في الغرب أكثر فائدة من المناطق الداخلية.
وفي السعوديّة التي تتربع بطبيعة الحال على رأس قائمة البلدان المفيدة، تُعدّ المنطقة الشرقية ومناطق الساحلين الشرقي (على الخليج) والغربي (على البحر الأحمر) فيها، مفيدة أكثر من مناطقها الداخلية. وفي أفريقيا تكتسب مناطق الثروات الطبيعية صفة المفيدة دون غيرها من المناطق.
وسنلاحظ أنّ أهمية الدول ترتبط عكسياً مع طول أمد النزاعات فيها، وطردياً مع مستوى التدخّلات الخارجيّة في شؤونها. ويتوقع أن تكون مجتمعات المنطقة، أرضاً خصبة لتلقي النتائج الحرجة للتحولات المذكورة في الاقتصادي العالمي، فمعظمها مناطق مفيدة بالتصنيف أعلاه، وتدرّ ريوعاً جغرافية أو من الثروات الطبيعية، ولكن إلى جانب ذلك ستكون عرضة للضغوطات السياسية والاقتصادية في استكمال الحرب ضد المقاومة والقوى الاستقلالية بطرق أخرى.
ولأنّ المنطقة مفيدة بالمعيار المذكور أعلاه، تتوالى الطروحات التي ترى في مآسيها وويلاتها مدخلاً إلى تفعيل عمليات جباية الريع الأمني بشكليه الموجب (استثمارات خليجيّة) والعكسي (منع الإعمار أو تعطيله)، من أجل جني المكاسب الاقتصاديّة الفوريّة أو الحصول على مكاسب سياسيّة تمهّد بدورها لوضع اليد على مواردها الطبيعيّة والجغرافيّة.
ولم يُخف ترامب الصلة بين الحرب والكسب، في خطته السورياليّة لتحويل غزّة إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، والتي تبنّى فيها من دون جهد، خلاصات دراسة وضعها الأستاذ «الإسرائيلي» - الأميركي في جامعة جورج تاون جوزيف بيلزمان في تموز 2024.
وتقترح الدراسة المذكورة، التي تنطلق من الرواية الصهيونية في تبرير إبادة غزة، إخلاء القطاع من السكان وتسوية أبنيته أرضاً، لتتولى بعد ذلك شركات أميركيّة إعادة إعمار البنية التحتية وإقامة منشآت سكنية واقتصادية تشغّلها على مدى 50 عاماً، وحينها فقط يفُكَّر في إعادتها إلى «أناس» غير محدّدين في المنطقة.
وتدلّ كلفة المشروع المقدّرة ما بين 1و 2 تريليون دولار أميركي، تنفق في مدّة زمنية تراوح بين 5 و10 سنوات، فيما لا تزيد كلفة إعادة إعمار المساكن المهدّمة لأبناء غزة وبناها التحتية ومؤسّساتها عن 80 مليار دولار وفق متوسط التقديرات، على أنّ الهدف ليس إعادة إسكان أبناء غزّة في أرضهم، بل ضمّ المنطقة إلى سلسلة المدن العقارية السياحيّة التي تنتشر على امتداد شواطئ المتوسط الجنوبيّة والشرقيّة.
وفي لبنان، يحصل الأمر نفسه، فلا تخفي الولايات المتحدة ومن يدور بفلكها في المنطقة وفي الداخل، نواياها عرقلة إعادة إعمار ما هدّمه عدوان 2024 على لبنان، ودفع الأمور نحو نموذج للإعمار يتماشى مع أهداف الحرب إذا ما سُمح به.
وهذا لا يقف عند تلبية لبنان الشروط السياسيّة المعروفة بل يتعداها إلى رسم المستقبل الاقتصادي للبلد على نحو ملائم للتصوّر العام لجعل المنطقة حديقة خلفيّة للمصالح الغربيّة. ولا يخفى أنّ الإعمار في لبنان هو أداة ابتزاز وازنة، فالمجتمع المتضرّر من الدمار يشمل أكثر من ثلث اللبنانيّين المقيمين، فيما لا تقلّ نسبة من فقدوا مساكنهم ومؤسّساتهم تماماً عن 7.5% منهم.
لكن ما يساور الغرب من طموحات وأفكار ليس قدراً، بل إنّه يقابل بمقاومة فعّالة، كما يظهر من تكيّف المجتمعات المصابة بالعدوان مع تداعياته، ونهوضها مجدداً من تحت الركام، وغالباً بقواها الذاتيّة.